يريدوننا غنماً .. هم رعاتها .. وهيهات
أ.د. جعفر شيخ إدريس
مجلة البيان العدد 187 , ربيع الأول 1424 هـ
« سنوفر لكم الطعام والشراب والدواء . ستنعمون بعائدات نفطكم . ستكونون أحراراً في بلادكم . ستكون هنالك ديمقراطية ...... » .
هذا
الذي يبشر به أئمة الاحتلال شعب العراق ، ومن ورائه كل شعب عربي وغير عربي
يريدون تسخيره لما يسمونه بمصلحتهم الوطنية . ما العيب قد يقال في أن ينعم
الناس بالطعام والشراب والكساء والدواء ؟ لا عيب إلا إذا كان هذا على حساب
كرامتهم . وقديماً قال الشاعر في بيت عده بعضهم أهجى بيت في الشعر العربي :
دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد ؛ فإنك أنت الطاعم الكاسي
فأئمة
البغي والاحتلال يريدون لشعب العراق ولكل شعب عربي أن يكون قطيعاً من الغنم
يأكل ويشرب ويداوى ؛ لكنه لا يحمل عصا ولا يصد عدواً . إنما الذي يحمل
العصا هو سيده ؛ فبها يهش عليه ويسخِّره ، وبها يحد له الحمى الذي لا
يتجاوزه . في حدود هذا الحمى تتمتع الغنم بحرية الأكل والشرب والثغاء
والنزو والتوالد . نعم ! سيترك لها راعيها شيئاً من حليبها لترضع به
أولادها وليصرف منه على طعامها وشرابها ، وليأخذ سيدها النصيب الأكبر منه
ليصرفه على طعامه هو وشرابه وسائر ملذاته ، بل وسلاحه الذي به يسوقها
ويستعبدها . ربما صدق المحتلون في توفير ما وعدوا بتوفيره ، وربما زادوا
عليه فاستجلبوا للعراق كل ما في بلادهم من أنواع الملذات : أسواق كبرى يعرض
فيها كل ما أنتجته مصانعهم ، وشركات لكل أنواع السيارات وسائر المراكب ،
دور
سينما ، حانات ومراقص ونواد ليلية ، قنوات لكل أنواع اللهو من
أفلام قذرة وأغان خليعة ودعايات رخيصة وتسويق للفكر الغربي والحضارة
الغربية . لكن الذي لن يفعلوه ، والذي عدوه خطيئة صدام الكبرى هو أن تكون
بلادهم قادرة على أن تتطور صناعياً ولا سيما في مجال الأسلحة . إنهم لا
يريدون أن تخلو العراق ويخلو كل بلد عربي وغير غربي مما أسموه بأسلحة
الدمار الشامل ، بل إنهم لحريصون أن يخلو حتى من المقدرة على إنتاج السلاح
مدمراً تدميراً شاملاً او غير شامل . ولكي يخلو من هذه المقدرة فلا بد أن
يخلو من العلماء الذين يملكون هذه المقدرة . سيخلو العراق كما سترون من
هؤلاء العلماء ، ربما بقتل بعضهم أو سجنه ، ولكن يقيناً
بإغراء آخرين بالمال الوفير لكي يهاجروا إلى أرض ( محرريهم ) ويشاركوا في
صناعة الأسلحة لهم ، كما فعلوا مع كثير من علماء الاتحاد السوفييتي . لماذا
اختاروا أرض العراق ليجعلوا من شعبها أول قطيع من أغنامهم ( أهم أول قطيع ؟
) ؟ اختاروها أولاً ؛ لأنها أرض لبون لا بقاء لهم بغير حليبها . وهذا أمر
قد أصبح من البدهيات ؛ فلا نقضي فيه وقتاً . وأما ثانياً فلأن في حكمها
ضعفاً
يجعل ذريعة استعباده باسم التحرر ذريعة مقبولة لشعبهم ولمن هو
على شاكلتهم من غير شعبهم . لا زلت أذكر منظراً شاهدته على التلفاز آلمني
رغم أن الضحية فيه كانت حيواناً . رأيت وحشاً يشتد جرياً وراء قطيع من
الغزلان ، وهي تعدو منه هرباً ؛ لكنه رأى في إحداها عرجاً أبطأ من جريها
فركز عليها وترك بقية القطيع حتى أدركها فقتلها ومزقها . وقد كان في النظام
العراقي عرج بيِّن كان هو السبب الأساس في سرعة انهياره . كان نظاماً
مبنياً على جرف هار ، هو شخص صدام ؛ فلما انهار الجرف انهار البناء كله .
إن الأمة التي ترضى لنفسها أن تكون قطيعاً من الأنعام يسوقه واحد منها ، لا
تستعصي على أن يكون سائقها واحداً من غيرها .
ومعاذ الله أن يكون شعب العراق كله كذلك . لكن داء هذه التبعية أصاب الجميع ، من كان راضياً به ومن لم يكن راضياً . فأول درس ينبغي
لنا أن نعيه هو أن لا نكون قطيعاً ولا شبه قطيع لواحد منا . إنه لا بد لكل
مجتمع ، مسلماً كان أو كافراً ، ديمقراطياً كان أو غير ديمقراطي ، لا بد
له من ولاة أمر يكونون مسؤولين عن إدارة شؤونه . لكن أن يكون الواحد منا
مسؤولاً عن إدارة شؤوننا شيء ، وأن يجعل منا قطعاناً يقضى أمرها وهي غائبة
شيء آخر . هذا درس جعله ربنا أصلاً من أصول ديننا . فنحن لا نحكم برأي فلان
وعلان وإن كثر عددهم ، وإنما نحكم بكتاب ربنا الذي يخضع له حاكمنا كما
نخضع له نحن المحكومين . وحاكمنا الذي يحكمنا
بكتاب ربنا لا يستبد
بالأمر من دوننا ؛ لأن صفة التشاور في أمورنا من الخصائص المميزة لنا لا
يكتمل بغيرها إسلامنا ، مثلها في ذلك مثل الإيمان بالله والتوكل عليه
وغيرها من الصفات التي تبينها الآية الكريمة : ] فَمَا أُوتِيتُم مِّن
شَيْءٍ فَمَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ
وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ *
وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا
غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ
وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا
رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ البَغْيُ هُمْ
يَنتَصِرُونَ [ ( الشورى : 36-39 ) .
تذكرت وأنا أشاهد على التلفاز
كثرة صور الرئيس صدام وتماثيله ، وأنا أسمع الناس يهتفون في كل مكان :
بالروح بالدم نفديك يا صدام ، تذكرت قول الله تعالى لرسوله صلى الله عليه
وسلم : ] إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ [ ( الزمر : 30 ) . ومع
أنه لا دين إلا باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه : ] مَن يُطِعِ
الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [ ( النساء : 80 ) ، ومع أن حياة الرسول
صلى الله عليه وسلم كانت ضرورية لتربية جيل كالذي رباه ، ومع أن حياة
المسلمين بعده لم تكن مثلها في حياته ، إلا أن الله سبحانه أراد أن يعلِّم
المؤمنين أن كل هذا لا يعني ارتباط الدين بحياته صلى الله عليه وسلم . ولم
يكتف سبحانه بتقرير حقيقة موت الرسول هذه ، بل أكدها بدرس عملي ؛ وذلك أنه
شاع يوم أحد أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل ، بل إن أحد المشركين واسمه
ابن قميئة بشَّر إخوانه الكفار بأنه هو الذي قتله ، وإنما كان في الحقيقة
قد ضربه فشجه . فلما شاع هذا الخبر الأليم ضعف بعض المسلمين ، فأنزل الله
تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم : ] وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ
قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ
انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ
فَلَن
يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [ ( آل عمران :
144 ) . وكل فَقْدٍ بعد فَقْدِ الرسول صلى الله عليه وسلم يهون ، ويمضي
المسلمون في طريقهم يتقون ربهم حق تقاته ما استطاعوا . بهذا ينبغي أن
يُذكَّر الناس ، وعليه ينبغي أن يربوا ، فلا يربطوا تمسكهم بدينهم وجهادهم
في سبيل إعلاء كلمة ربهم بموت أحد ولا حياته ، بل عليهم أن يسدوا كل
الذرائع المؤدية إلى تعلق الدين بحياة
الأشخاص مهما عظموا علماً وورعاً
، أو حكماً عدلاً ، أو شجاعة وبسالة . وإنه لمن مقتضيات تمسكنا بديننا ،
وكوننا أمة ذات رسالة ، أن نكون أمة قوية مرهوبة الجانب ، لا نأكل ونتمتع
كما تأكل الأنعام ، ولا نكون غنماً تهش عليها وتوجهها أنى شاءت عصا
الكافرين . لكن القوة المادية لها ثمن ينبغي أن نكون مستعدين لدفعه . يجب
أن نربى على التضحية بكثير من الملذات ، بل يجب أن
نتربى على الاقتناع
بالكفاف ، ثم نرصد ما تبقى من دخلنا القومي للأخذ بأسباب القوة المادية ،
من تأهيل علمي ولا سيما للنابغين من أبنائنا ، ومن طَرْق لأبواب الصناعة
الثقيلة ، ولا سيما صناعة الأسلحة . كيف تدافع عن نفسك ، أم كيف لا تكون
فتنة لعدوك ، وأنت تعتمد عليه في أسلحتك التي بها تدافع عن نفسك ؟ هذه هي
الخطوة الأولى للسير في طريق القوة : عزمة نجتمع عليها حكاماً ومحكومين . أما تفاصيلها وكيفية تحقيقها ، فيترك للمختصين منا ، ولن تعجزنا بإذن الله تعالى .
ومن سار على الدرب وصل . لكن ينبغي أن لا يغيب عن بالنا أننا نريد أن نفعل كل هذا باعتبارنا مسلمين .
وعليه
فكما نسعى لامتلاك القوة المادية ، فعلينا أن نجتهد في امتلاك القوة
المعنوية : قوة العلم بالدين الحق ، والاستمساك به ، والدعوة إليه ، والأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر . فهذا هو سر قوتنا ، وسبب دوام بقائنا ، فإننا
بفضل الله أمة لا تموت :
كتابها محفوظ ذكراً ، لا حفظاً متحفياً ،
ذكراً بحفظ لغته ، وحفظ سنة نبيه ، وحفظ العلماء العارفين به ، المجددين له
، الداعين إليه ، المجاهدين في سبيله . أما الأمم الكافرة فإنها تنتفش
وتنتفش ثم لا تلبث أن تُخرق وتسقط مهما كان لها من قوة مادية ، تخرقها
وتسقطها ما ترتكب من فواحش وظلم واعتداء ، وما يملأ صدورها من غرور وحمية
الجاهلية : ] أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ
العِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البِلادِ * وَثَمُودَ
الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ *
الَّذِينَ طَغَوْا فِي البِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الفَسَادَ * فَصَبَّ
عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [ (
الفجر : 6-14 )